كان ق. مار أوكين من مصر واسم بلده "القلزم" (بجوار السويس الآن). وكان يجتهد أن تكون أعماله روحانية لكي يدوم إلى الأبد. وكانت صناعته أن يغوص في البحر ويلتقط اللآلئ، فكان كل يوم يضع على وجهه غطاءً زجاجيًا ويغوص في البحر، وكل ما يلتقطه من اللآلئ كان يبيعه ويصرف ثمنه على المساكين والأيتام والأرامل والكنائس والأديرة، ويطلب من السيد المسيح أن يعوضه في ملكوته. وكان يترجى أن يرى ما رآه الرسول بولس: »ما لم ترَ عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسان، ما أعدّه الله للذين يحبونه« (1كو2: 9).
وفي أحد الأيام نزل إلى البحر كعادته فرأى رؤية إلهية: شبه كوكب مضيء وهو يمشي على وجه الماء أمامه، فتعجّب جدًّا متسائلاً عن هذا المنظر. وبعد ذلك حلّت عليه نعمةٌ إلهية، فزاد من أعماله الصالحة: أي صلاته وصومه ورحمته على المساكين، كما تشبّه بأعمال طابيثا المذكورة في سفر الأعمال (ص 9). وظلّ مداومًا على ذلك في مدينة القلزم لمدة 25 سنة، فلما رأى الله إرادته المقدسة أعطاه موهبةً عظيمةً وهي أن يُعين السفن التي على وشك الغرق، وأن يمشي على الماء كما على اليابسة، وكان يُهدِّئ العواصف عن السفن التي كانت تمرّ من هناك.
وفي مرة جاء لصوص في مركب (أي قراصنة) لكي يستولوا على مركب لبعض التجّار، فقام القديس بمحبةٍ إلهية ومشى على الماء حتى وصل إلى مركب التجّار وخلّصهم من اللصوص، وبصلاته أرسل الله إليهم ريحًا من التيمن (بلاد اليمن) فأبعدت مركب اللصوص عن مركب التجّار بمقدار تسعين فرسخًا، كما أرسل الله ريحًا من الشمال فدفعت مركب التجّار إلى مياه مدينة القلزم. ولما وصل التجّار ورأوا ما فعله القديس لأجلهم خافوا وتعجّبوا جدًّا لأنهم تحقّقوا من إنقاذه لهم. فاجتمعوا وتشاوروا قائلين: ”هذا رجلٌ إلهي، فبصلاته خلّصنا الله من اللصوص“. ثم أعطوه ثلاثين أوقية من الذهب طالبين أن يصلِّي لأجلهم، ثم صرفهم بسلام.
أخذ القديس الذهب وبدأ في بناء دير لكي يصعد منه تسبيحٌ للرب، وعمل بقول الرب: »اكنـزوا لكم كنوزًا في السماء حيث لا يُفسِد سوسٌ ولا صدأ وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون، لأنه حيث يكون كنـزك هناك يكون قلبك أيضًا« (مت6: 20و21). وقد عظم اسم القديس في جميع جزائر البحر والسالكين فيه من التجّار والمسافرين، فكانوا كلما ذكروا اسم القديس مار أوكين يجدون خلاصًا لنفوسهم وراحةً من نوّات البحر.
كما صنع القديس أعجوبةً عظيمةً: فقد حدث أنّ سفينة قويَ عليها الماء والنوّ حتى حوصِرَت في شقٍّ في الجبل في مضيقٍ عظيم وصار أصحابها في شدّةٍ عظيمة، ولم يقدروا أن يُخرجوها من ذلك الموضع. فانطرحوا بوجوههم قدّام الله طالبين أن يُخلِّصهم من غرق البحر. فسمع الله الرحوم صلواتهم ونجّاهم بيد القديس. فقد أظهر الله له أن يذهب ويُنجِّي تلك السفينة، فلما ذهب إلى هناك رآه الركاب ماشيًا على الماء متجهًا نحوهم، فصرخوا بصوتٍ عظيمٍ قائلين: ”ترحّم علينا يا عبد الله، لأننا علمنا أنّ الله أرسلك إلينا لتخلِّصنا من هذه اللُّجّة الصعبة“. فوقف القديس وسجد للرب قائلاً: ”أيها الرب القوي الجالس فوق الشيروبيم، ملك البرّ والبحر واللُّجج، خلِّص عبيدك من هذه التجربة التي هم فيها، وأوصلنا إلى مينائك الهادئ، لأنّ لك وحدك المجد والإكرام الآن وكل أوان، آمين“.
ولما أكمل صلاته هبّت ريحٌ من التيمن، ولكنّ السفينة لم تتحرك من شقّ الجبل، فصلّى القديس مرةً أخرى، فغطست الصخرة السفلية (من الشق) إلى أسفل، وتخلّصت السفينة من هذا الشق، ووصلت سريعًا إلى الميناء الهادئ.
وكان ق. مار أوكين يصنع عجائب كثيرة مثل هذه في البحر وفي البرّ، وكان الله قد أعطاه قوةً حتى إنّ كل مَنْ سمع ورأى أعماله كان يتعجب ويسبِّح الله. ولما رأى القديس تلك القوات الإلهية التي أعطاها الله له ذهب إلى الدير الذي بناه وعيّن له رئيسًا ومدبِّرًا (رُبِّيتة)، ثم ذهب إلى دير القديس أنبا باخوم في الصعيد لكي يُقيم عندهم.
وفي أحد الأيام ساعد القديس الخبّازين لكي يحمِّي معهم الفرن، فحمّوه حتى صار كالأتون، ولم يكن الإخوة يعلمون بالقديس من أين هو، لأنه أتى إليهم بلباسٍ حقير كأحد المساكين. فقال بعض الإخوة للقديس: ”قِفْ مع هذا الأخ وساعده حتى نمضي ونصلِّي مزامير نصف النهار، ثم نأتي ونطرح الخبز في الفرن“. ولما أكمل الإخوة المزامير جاءوا كالعادة ليطرحوا الخبز في الفرن، فوجدوا ذلك الأخ مطروحًا كالميت، فسألوه عن سبب كونه مطروحًا على الأرض والفرن قد بردت ناره، فقال لهم: ”إنّ ذلك الرجل الذي تركتموه معي قد صنع أعجوبةً عظيمةً، إذ إنّ الخبز استوى على يديه سريعًا“، وأخبرهم بما رآه. فسألوه: ”أما تعلم أين ذهب“؟ فأجابهم: ”لما رأيتُ هذه الأعجوبة سقطتُ على الأرض ولم أعرف أين ذهب“.
فخرج رئيس الدير وجميع الإخوة ليبحثوا عنه في المزارع، فوجدوه ساجدًا على الأرض وهو يسبِّح الله. فجاءوا به إلى الدير وطلبوا أن يصلِّي عليهم وتباركوا منه، كما طلب هو أن يصلّوا لأجله ثم خرج في تلك الليلة من الدير دون أن يعلم به أحد وعاد إلى بلاده حيث ظهر له الكوكب المضيء مرةً أخرى. وخرج الإخوة للقائه بالمزامير والتسابيح وتباركوا منه وسألوه أن يسكن عندهم لكي يعلِّمهم فرفض.
ولما فارقهم ذهب معه سبعون من الآباء إلى مدينة نصيبين فيما بين النهرين (العراق)، وهناك تكاثر عددهم حتى وصلوا إلى نهر "هرميس" قبلي مدينة نصيبين حيث مكثوا سبعة أيام وسط الغاب الذي وجدوه هناك يسبحون الله دون أن يعلم بهم أحد. وهناك أخرج مار أوكين روحًا نجسًا من إنسان بعد أن اعترف أنه سكن فيه ستًّا وثلاثين سنة. ثم سكنوا في مغارةٍ لمدة ثلاثين سنة، وسمع بهم كثيرون، فسكنوا معهم حتى صار عددهم ثلاثمائة وخمسين رجلاً متفقين بمحبةٍ إلهية! وكانوا يغسلون أيدي وأرجل الغرباء، وقد أعطاهم الرب قوةً لشفاء المرضى وإخراج الشياطين وكل الأعمال الصالحة باسمه.
وفي مرة أظهر الله للقديس مار أوكين ملاكًا قائلاً له: ”شدّ وسطك مثل جبّار واذهب وبشِّر ببشارة الملكوت لأنّ الله استمع إلى صلواتك. فاظهر أنت وإخوتك للناس ولا تخافوا ممن يقتل الجسد“. فذهب القديس وجميع الإخوة وتلمذوا وعلّموا في المدن والقرى وجرت على أيديهم عجائب كثيرة.
ولما تنيح مطران مدينة نصيبين اختلف شعبها فيمن يخلفه، فذهبوا مع كهنتهم وشمامستهم إلى ق. مار أوكين الذي طلب منهم أن يصلُّوا معًا في الكنيسة. ثم جاء ق. مار يعقوب المتوحد إلى مار أوكين الذي تنبّأ له أنه سيرعى هذا الشعب. وبينما كان الأب البطريرك يصلِّي بدموع غزيرة مع الشعب في الكنيسة حلّ عليه النعاس، فرأى شابًا يقول له: ”مار يعقوب هو الذي تسأل الرب عنه“. فذهبوا جميعًا إلى هذا القديس في الجبل حيث قال لهم إنه لا يستحق ذلك، ولكنه لما علم أنّ الأمر من الله خاف أن يقاوم أمر الله. فذهب معهم ورسموه وفرح به الجميع. وقال لهم مار أوكين: ”اِفرحوا ومجّدوا الله الذي أهّل مدينتكم أن يكون لها هذا القديس“. ولما سألوا عن جنسه عرّفهم مار أوكين أنه من نسل القديس يعقوب الرسول أخي الرب.
وكان هناك رجل مقعدٌ منذ 15 سنة، فصلّى عليه القديسان مار أوكين ومار يعقوب أسقف نصيبين حتى شُفيَ فآمن الكثير من اليهود والوثنيين. ولكن أتباع المبتدع "مارقيان"([2]) سخروا من ذلك، وكان منهم "قدرون" أخو والي المدينة. وكان قدرون له ابن معوَّقٌ منذ ولادته، وكان يشتهي أن يُشفى ولكنه سخر من كلام المقعد الذي شُفيَ. ثم تأكّد من شفائه المعجزي فبدأ يتخلّى عن بدعة مارقيان، وتضرع في الكنيسة أن يرشده الله. ثم ذهب لمقابلة القديسين مار يعقوب ومار أوكين حيث تصادف وجود أخيه الوالي، وقال للقديسيْن إنه إذا شُفيَ ابنه على أيديهما يزول منه الشك ويعتنق الإيمان الصحيح. ولما عمّده القديسان خرج من جرن المعمودية معافى، فآمن الرجل واعتمد هو وكل أهل بيته. فحلّ الخوف على أتباع مارقيان وهربوا من المدينة. كما آمن كثير من اليهود وتعمّدوا حتى بلغ الذين تعمّدوا في ذلك اليوم مع والي المدينة نحو 1200 نفس، وأحرقوا كتب السحر.
ثم استودع ق. مار أوكين هذا الشعب للرب وعاد إلى ديره حيث أجرى الله على يديه معجزات عديدة منها أنه أقام ابن أخي الوالي من الموت، فأخبر الإمبراطور قسطنطين بذلك، وهذه هي الأسباب التي دعت الإمبراطور أن ينطق بالقول: ”أشكر المسيح أنّ في أيامي توجد ثلاثة أنوار: أنبا أنطونيوس، ومارِ "أللونيوس"، ومارِ "أوكين"، وهم يضيئون بنورهم الصحيح على كل البشر وقد طردوا الظلمة من قلوبهم وشفوا أفكارهم المزعجة من أوجاع الخطية التي يزرعها الفلاح الرديء ونقّوا أرض نفوسهم وزرعوا فيها زرعًا طيبًا الذي هو معرفة المسيح إلهنا“. وقد أعلم الرب مار أوكين في رؤيةٍ بالتجارب التي كانت ستحل على الكنيسة بسبب بدعة أريوس.
وبجوار نهر دجلة أقام مار أوكين ميتًا كان قد قتله سبع في غابةٍ، فآمن عدد كبير من سكان المدينة المجاورة بالمسيح فعمّدهم وعلّمهم الإيمان الصحيح وبنى لهم كنيسة، ثم عبر نهر دجلة وذهب إلى الدير الذي بناه ق. مار يعقوب. ولما هاجم الفرس البلاد التابعة للروم وقف ق. مار أوكين ورشم عليهم الصليب فحلّت عليهم غمامة حتى هُزموا وهربوا. كما تنبأ عن موت الإمبراطور يوليانوس الجاحد الذي كان يريد أن يُهلِك المسيحيين، وهكذا حدث واستلم المُلْك بعده الإمبراطور "بنيانوس" المؤمن.
ولما اقتربت وقت نياحة القديس رأى تلميذه الملاك المكلّف من الله بأخذ نفس القديس، فصرخ داعيًا الإخوة لكي يتباركوا منه ”لأن الملاك جاء ليقطع شجرة الحياة والعمود المضيء علينا وأبانا الروحاني، فعما قليل ينطفئ الشعاع الذي كان يضيء بتدبيره على نفوسنا المظلمة بالخطية“. فاجتمعوا جميعًا وتباركوا منه وهم يبكون، فباركهم جميعًا، ثم بسط يديه ورجليه وسلّم روحه المقدسة لربنا يسوع المسيح، وامتلأت القلاية بروائح عطرة.
هذه هي سيرة القديس مار أوكين التي كتبها تلميذه ميخائيل. كما أن المخطوطة نفسها ذكرت سير بعض تلاميذه مثل "مار ملكا القلزمي" و"مار أولاغ القبطي" و"مار إشعياء المتوحد". بركة صلواتهم جميعًا تكون معنا آمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق