ميلاد أنبا شنودة رئيس المتوحدين









ميلاد أنبا شنودة رئيس المتوحدين
في هذا اليوم تذكار ميلاد أنبا شنودة رئيس المتوحدين 
يُعتبر أهم شخصية تمثل رهبنة الشركة في مصر بعد القديس باخوميوس . دُعي "أرشمندريت" أي رئيس المتوحدين ، لأنه كان يمارس حياة الوحدة من حين إلي آخر . لقد شجع بعض رهبانه علي الانسحاب إلي البرية بعد سنوات قليلة من ممارستهم حياة الشركة ، دون قطع علاقتهم بالدير تمامًا . بينما رأي القديس باخوميوس في "الشركة" ذُروة السموّ الرهباني ، أما القديس شنودة فيراها مرحلة انتقالية تُعد النفوس الناضجة لحياة المتوحدين الأكثر نسكًا .
كان رئيسًا للدير الأبيض في إتريب في صحراء طيبة ، لأكثر من 56 عامًا (القرن الرابع/الخامس) . قاد حوالي 2200 راهبًا و1800 راهبة ، كما أخبرنا تلميذه وخلفه القديس ويصا . 
في سنة 431م رافق القديس الأنبا شنودة القديس كيرلس الكبير في مجمع أفسس المسكوني .
لم يقبل في ديره أجنبيًا ليلتحق بجماعاته الرهبانية ، بل كان جميع رهبانه من الأقباط الأصليين . لهذا عزف كثير من الأوربيين ذكر اسمه في الفترة الخاصة بآباء البرية ، كما لم يترجموا شيئًا من أعماله علي مدي قرون طويلة .
صبوَّته
"شنودة" هو الشكل الصعيدي لاسم رئيس المتوحدين الذي عاش في الصعيد . لم يستعمل غير اللهجة الصعيدية في كتاباته وخطبه وحديثه اليومي ، أما الشكل البحيري لاسمه فهو شنوتي ومعناها خادم الله أو المكرّس للّه .
وُلد شنودة من أبوين مسيحيين تقيين ، ربّيا ابنهما على المبادئ المسيحية المُثلى ، وكان لوالده حقل يشتغل فيه مع فلاحيه ، كذلك كان يملك قطعانًا من الغنم ، فرأى ان يدرّب ابنه على العمل منذ حداثته ، فأرسل شنودة ليرعى الغنم وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره . وكان الصبي يُلازم الرعاة طيلة النهار ويعطيهم طعامه الخاص بدلاً من ان يأكله ، وعند غروب الشمس بدلاً من ان يعود لأبويه مباشرة ، كان يقف إلى جانب بئر ويصلي حتى ساعة متأخرة من الليل .
مع خاله بيجول
إذ علم والده بمسلكه هذا استصحبه إلى خاله الراهب المعروف الأنبا بيجول ، ولما وصل الاثنان إلى الدير قال له والد شنودة: "بارك يا أبي هذا الصبي" ، ولكن الأنبا بيجول أخذ يد شنودة ووضعها على رأسه قائلاً : "أنا الذي يجب ان ينال البركة من هذا الصبي لأنه إناء مختار للسيد المسيح ، الذي سيخدمه بأمانة كل أيام حياته" . فلما سمع أبو شنودة هذه الكلمات تطاير قلبه فرحًا واستودع الولد خاله ، فنشأ شنودة منذ صباه في دير خاله ، ومنه اقتبس كل الفضائل المسيحية .
ظلّ شنودة يجاهد في سبيل الكمال الروحي بالصوم والصلاة والصبر والتواضع ، وكان نشيطًا يؤدي جميع الواجبات الرهبانية المفروضة عليه بهمة نادرة ، وكان خاله يرقبه باهتمام زائد ويفرح لنموه السريع في العلم والفضيلة . وازداد فرحه بسبب ما رآه في رؤى الليل ، فقد سمع ملاك الرب يقول له: "البس الراهب الشاب شنودة الإسكيم المقدس" ، فقام في الصبح باكرًا جدًا وصلى صلاة الإسكيم المقدس ومنطقه به . 
وخلال هذه السنوات عاش شنودة في الدير الأحمر حيث كان خاله أبًا للرهبان ، ولما رأى شنودة أنه نال كرامة الإسكيم ضاعف جهوده وأمعن في دراسة الأسفار الإلهية ، ولم يقتصر على دراستها لنفسه بل أخذ يُعلّمها للرهبان والمدنيين الذين كانوا يفدون على الدير لوفاء ما عليهم من نذور ، فكان يجمعهم حوله ويُعلّمهم مثبّتًا إياهم على الإيمان الأرثوذكسي .
الأرشمندريت
في أحد الأيام سمع الرهبان الشيوخ صوتًا يقول: "لقد أصبح شنودة أرشيمندريت" (أي رئيسًا للمتوحدين) ، وكانت غيرة شنودة المتقدة وقداسته الفائقة والاستعلانات الإلهية العديدة التي منحها له الآب السماوي سببًا في اجتذاب عدد وفير من الناس إليه ، جاءوا ليعيشوا معه تحت رعايته وليتعلموا منه الفضائل المسيحية . فلما انتقل الأنبا بيجول إلى بيعة الأبكار انتخبوا شنودة خلفًا له . 
نظامه الرهباني
مع ان الأنبا شنودة اتبع نظام الرهبنة السائد في مصر إلا أنه وضع خطة يسير عليها رهبانه ، بها بعض الاختلافات تتعلق بنظام طالبي الرهبنة ، ونظام الإدارة ، وقانون العبادة ، والاهتمام بالتعليم والعمل اليدوي ، ونظام العزلة جامعًا بذلك بين الرهبنة الأنطونية والرهبنة الباخومية .
يختلف نظام الشركة الذي أقامه القديس شنودة عن النظام الباخومي ، فقد اتسم بحزم أشد ، وتتلخص خطوطه الرئيسية في النقاط التالية:
1 . يقضي طالب الرهبنة فترة اختبار في بيوت خارج أسوار الدير وليس داخلها كما في النظام الباخومي . ويكتب طالب الرهبنة تعهدًا يوقع عليه قبل رهبنته ، ويتلوه أمام الاخوة داخل الكنيسة ، ويحفظ هذا التعهد في أرشيف الدير .
2 . كان كل دير يديره أب ، هذا بدوره يخضع للأرشمندريت كأب لكل الأديرة . وتقام أربعة اجتماعات عامة لكل الرهبان سنويًا ، يحضرها أيضًا المتوحدون ، وذلك لمناقشة أوضاع هذه الأديرة .
3 . من جهة العبادة ، تتلو كل جماعة من الرهبان صلوات قصيرة قبل البدء في أعمالهم . وتتكون الصلوات الخاصة من المزامير والتسابيح الكنسية ، تُتلي في القلالي بإرشاد الأب الروحي, أما الصلوات الجماعية فيجتمع الرهبان أربع مرات لهذا الغرض: في الصباح وعند الظهر وعند الغروب وبالليل . يجتمعون وينصرفون في هدوء كامل ، لا يفكرون إلا في الصلوات التي يتلونها .
بجانب هذه الصلوات تقام ليتورجيا الافخارستيا أسبوعيًا . كان يُسمح للعائلات وكل الشعب المحيط بالأديرة ان يزوروا الأديرة في السبوت للتمتع بخدمة "العشية" وسماع العظة ، كما يشتركون في القداس الإلهي مع الرهبان في أيام الآحاد . وكان الرهبان يقدمون الطعام للجماهير ، وكان القديس أنبا شنودة يعظهم بنفسه .
أنشأ مدرستين في الدير الأبيض ، وشجع الرهبان علي التعلم ، إذ آمن ان التعليم هو السلاح الفعال ضد العادات الوثنية ، كما شعر بالمسئولية نحو تأسيس مدارس في القرى المجاورة .
عاش الأنبا شنودة في عصر يتأجج بنيران الأحداث: ففيه انعقدت ثلاثة مجامع هي مجمع أفسس المسكوني الثالث ، الذي حضره مصاحبًا للبابا كيرلس عمود الدين ، ومجمع أفسس الثاني ومجمع خلقيدونية الذي شق الكنيسة المقدسة ، وفيه أيضًا زالت الوثنية نهائيًا ، بعد ان حاول الإمبراطور يوليانوس الجاحد عبثًا ان يعيدها إلى الوجود ، وفيه أيضًا تحققت القومية المصرية ، إذ وقف المصريون جميعًا كتلة واحدة ضد الملكية الدخيلة ولم يرضوا بها حتى عندما اصطبغت بالصبغة الدينية . 
قائد كنسي سياسي (ضد الاستعمار البيزنطي)
مع ان القديس الأنبا شنودة كان شغوفًا بالعُزلة منذ صباه إلا أنه شاطر العالم حياته ، إذ كان يرقب الأحداث والتقلبات السياسية بدقة واهتمام ، مدركًا ان التلميذ المخلص للمسيح هو من يوصل رسالته إلى غيره من بني الإنسان . وحين جال ببصره حوله رأى بني قومه يرزحون تحت أثقال من العبودية المرة: عبودية الأوهام ومخاوف توحيها إليهم الوثنية ، وعبودية للحكام البيزنطيين الذين كانوا يمتصون دماء الشعب الكادح ويسلبهم عرق جباههم ، صمم على ان يكرّس لتحريرهم . بدأ بتحريرهم من مخاوفهم بأن بيّن لهم ان العناية الإلهية تقيهم كل أذى ، وقرن تعليمه بالعمل ، فكان يُطعم الجائع ، ويكسو العريان ، ويداوي المريض ، ويأوي الغريب . وفوق هذا كله فقد كان يذهب بنفسه مع المظلوم من المصريين إلى ساحة القضاء ليترافع عنه شخصيًا ، فإن لم يفلح في إقرار العدالة توجه بالشكوى إلى الإمبراطور رأسًا ، ولم يهدأ له بال حتى ينال المظلوم حقّه . 
في اجتماع عام أثار الجمهور بقوله: [قلوب الحكام المملوءة شرًا وخداعًا وظلمًا وطمعًا . لهم هدف واحد هو جمع المال علي حساب الفقراء الذين هم الضحية . من يقدر ان يحصي الأتعاب التي يلاقيها الشعب من هؤلاء الحكام؟ فإنني أعرف بعضًا لم يجدوا طعامًا ليأكلوا هم وحيواناتهم . أظن أنهم يريدون ان يقيموا من المصريين عبيدًا لهم ، يضعون النير علي أكتافهم .]
لما كان الله قد حباه المقدرة على الكتابة والخطابة فقد استخدم هذه الموهبة ليستثير روح القومية في الشعب ، فكان لا يخاطب الجماهير إلا باللغة القبطية بلهجتها الصعيدية ، وبهذا اللسان المصري الصميم ألهب صدورهم حماسة ، وأيقظ وعيهم القومي وجعلهم يدركون ما في مصريتهم من كرامة . وكانت هذه النار التي أوقدها الأنبا شنودة هي القوة الدافعة ، التي مكّنت المصريين من ان يقفوا أمام وجه حكامهم المستعمرين ، تلك الوقفة الحاسمة في مجمع خلقيدونية المشئوم ، حيث رفضوا ان يحنوا هامتهم للإمبراطور مركيان ، حين زعم أنه يستطيع ان يفرض عليهم مذهبه الخلقيدوني ، الذي يخالف عقيدتهم الأرثوذكسية التي تعلموها من آبائهم .
مُصلح اجتماعي روحي
ترتبط العبادة عند القديس شنودة بالحياة الاجتماعية . فالدين هو حب عملي وتقوي . لهذا لم ينعزل القديس شنودة ورهبانه الآلاف عن المجتمع المصري . نذكر علي سبيل المثال عندما أغار الغزاة علي صعيد مصر وسبوا الآلاف من الشعب ، قابل الغزاة وأقنعهم ان يأخذوا الغنائم ويتركوا النفوس . ثم فتح ديره للمسببين البالغين آلافًا من النفوس ليستقروا هناك لمدة ثلاثة شهور . كرّس الرهبان وقتهم لخدمتهم . وقام سبعة من الأطباء الرهبان بتضميد الجروح . خلال هذه الفترة مات 94 شخصًا دُفنوا بالدير ، بينما وُلد بالدير 52 طفلاً . أكلت الجماهير 8500 أردبًا من القمح مع كميات ضخمة من العدس والزيت والفول . . . بهذا يمكننا ان نتصور عدد الضيوف الذين عاشوا في الدير هذه المدة الطويلة . وكيف آمن الرهبان بالحب العملي كأهم من أي قانون أو تدبير رهباني .
اهتمامه بالراهبات
لم يكن الأنبا شنودة أبًا للعديد من الرهبان فحسب ، بل كان أبًا لألف وثمانمائة راهبة أيضًا ، وقد كتب لهؤلاء الراهبات رسائل عديدة الغرض ، منها تعليمهن وإرشادهن وتثبيتهن على الإيمان القويم . ومع أنه كان أبًا لهذا العدد الوفير من الرهبان والراهبات إلا أنه ظل يمارس حياة العزلة باستمرار ، ولذلك تأهّل لأن ينال لقب "رئيس المتوحدين" ، فكان يقضي بعضًا من الوقت في كل سنة منقطعًا بمفرده ، ولم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منه أثناء هذه العزلة .
قد عاش الأنبا شنودة حتى بلغ الثامنة عشرة بعد المائة ، قضى ستة وستين عامًا منها رئيسًا لبضعة أديرة ، بعضها للرهبان وبعضها للراهبات ، وقد منحه الله مع هذا العمر الطويل الصحة والعافية ، فظل طيلة حياته يعمل بلا هوادة منذ ان تسلم قيادة الدير الأحمر عن خاله الأنبا بيجول ، كما نجح بجهاده المتواصل وهمته في ان يثبت نظام أديرته ، وأن يسلم الشعلة وهّاجة إلى تلميذه ويصا ، كذلك نجح نجاحًا باهرًا في ان يوقظ في مواطنيه عاطفتهم نحو بلادهم .
القمص تادرس يعقوب ملطي : الكنيسة القبطية الأرثوذكسية كنيسة نسك .صلاته تكون معنا و لربنا المجد دائمًا أبديا آمين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق