مدونة غيورة القبطية
«إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعزِّي»
(يو 16: 7)
طعام الاقوياء
كم كان حُزن التلاميذ عظيماً حينما صارحهم الرب أنه ماضٍ إلى الذي أرسله. فقد كان الربُّ يرى ويحسُّ بكلِّ ما في قلوب تلاميذه، حتى أنه قـال لهم: «لكن لأني قُلتُ لكم هذا ملأ الحُزن قلوبكم. لكني أقـول لكم الحقَّ، إنه خيرٌ لكم أن أنطلق، لأنه إنْ لم أنطلق لا يأتيكم المُعزِّي، ولكن إنْ ذهبتُ أُرسله إليكم» (يو 16: 7،6).
مَنْ هو المُعزِّي؟
كلمـة ”المُعزِّي“ تعني لغويّـاً: ”المُعِـين أو المستشار أو الناصـح أو المحامي“؛ وهي باللغة اليونانيـة ++++++++++، أي ”الباراكليت“. ولإيجاد كلمة واحدة تُعبِّر عن هذه الكلمة اليونانية الأصل في اللغة العربية أَمْرٌ عسير جداً. فهي تعني كل هذه المُرادفات وأكثر، إذ أنها تفيد أيضاً معنى ”المُريح“. إلاَّ أنَّ الرب قد أظهر أعمالاً أخرى للمُعزِّي الروح القدس، بقوله: «ومتى جاء ذاك يُبكِّت العالم على خطية وعلى برٍّ وعلى دينونة. أمَّا على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي. وأمَّا على برٍّ فلأني ذاهبٌ إلى أبي ولا ترونني أيضاً. وأمَّا على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دِينَ» (يو 16: 8-11).
فعدم إيمان الذين رفضوا المسيح رغم كل ما أبصروه من أعمالٍ لم يعملها أحد غيره، قد ثَبَّتَتْ عليهم خطيتهم، كمـا أوضح المسيح ذلـك لتلاميـذه - وقلبه يقطُـر أسًى على غلاظـة قلوبهم - وذلك حينما قال لتلاميذه: «لو لم أكن قد جئتُ وكلَّمتهم، لم تكُن لهم خطية، وأمَّا الآن فليس لهم عُذرٌ في خطيتهم» (يو 15: 22).
أما تبكيت الروح للعالم على بِرٍّ، فلأن الرب بصعوده قد أعطى الذين آمنوا به امتداداً ونموّاً في بِرِّهم وتصديقهم وحبِّهم للمسيح، لأنهم قبلوه وآمنوا به حتى بعد أن احتجب عن عيونهم.
أما تبكيت الروح للعالم على دينونةٍ، فلأنه بعد أن أدان الربُّ إبليسَ رئيسَ العالم ورؤيته له ساقطاً مثل البرق من السماء، وبعد أن أعطانا السلطان أن ندوس العدو ونسحقه تحت أقدامنا بقوَّة صليبه المُحيي؛ إلاَّ أنه ما زال العائشون حسب الجسد يتعلَّلون بإبليس وخداعه وحِيَله، مع أنَّ الرب قد حرَّرهم من سُلطانه وأعطاهم الغلبة عليه وعلى كل أعوانه بقوة قيامته، وأكَّد لنا أنه: «في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا: أنا قد غلبتُ العالم» (يو 16: 33).
«خيرٌ لكم أن أنطلق»:
لقد ملأ الحُزن قلوب التلاميذ حينما قال لهم الرب يسوع: «أنا ماضٍ إلى الذي أرسلني»، ذلك لأنهم ظنُّوا أنَّ تَرْكـه لهم هـو انفصالٌ عنهم!! لا شكَّ أنَّ رحيل المسيح عنهم جسديّاً، بعد كل ما رأوه فيه مـن مجد كما لوحيدٍ من الآب، هو أمـرٌ مؤلم جـداً وغير مُصَدَّق حسب الظاهر، ولكن الرب أوضح لهم أن رحيله عنهم، هو لكي يُرسـل لهم المُعزِّي الـذي سيدوم معهم ويكون فيهم، كما قـال لهم قبلاً: «وأنا أطلب مـن الآب فيُعطيكم مُعزِّياً آخرَ ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأمَّا أنتم فتعرفونه لأنه ماكثٌ معكم ويكـون فيكم. لا أترككم يتامَى. إني آتي إليكم. بعـد قليل لا يـراني العالم أيضاً، وأمَّا أنتم فترونني. إني أنـا حيٌّ فأنتم ستَحْيَوْنَ. في ذلـك اليوم تعلمون أني أنـا في أبي، وأنتم فيَّ، وأنـا فيكم» (يو 14: 16-20).
هذا هو المُعزِّي الآخر، الروح القدس، روح الحق، الذي طلبه الابن من الآب ليمكث معنا إلى الأبد ويكون فينا. وهو الذي يجعلنا لا نشعر بأن الابن قد تركنا يتامَى، بل رغم أنَّ العالم لن يرى الابن أيضاً، إلاَّ أننا سنراه وهو سيَرَانا فتفرح قلوبنا ولا ينزع أحد فرحنا منَّا (انظر يو 16: 22). وسيسكن المسيح بالإيمان في قلوبنا، لأنه حيٌّ وسيظل حيّاً، ونحن سنحيا فيه، لأنه هو حياتنا كلنا وقيامتنا كلنا. وبفِعل موته عنَّا وقيامته بنا، سيجعلنا نَعْلَم أنَّ الابن في الآب، وأننا نحن في الابن، وأنه هو فينا. وهذا هو عمل الروح القدس في الآب والابن وفينا.
وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير:
[هـذا هـو الاسم الذي يُعطيه للروح (مُعزِّياً آخر) الذي ينبثق مـن جوهر الله الآب الذي له نفس الجوهر الواحد أيضاً... لأنـه هـو روح الآب والابـن. ولأن الآب يعرف أنـه هـو نفسه باراكليت أي مُعزِّي بالحق، وأنـه سُمِّيَ هكـذا في الكُتُب المقدَّسة؛ لذلك يدعـو الروح مُعزِّياً آخر، ليس على أساس أنَّ الروح يستطيع أن يفعـل في القدِّيسين فعلاً آخـر أكثر مِمَّا يستطيع هـو نفسه (الابـن) أن يفعل، وهـو الذي له الروح خاصّاً به، كما أنَّ الروح يُدعَى هكذا (أي يُدعَى روح الابن)](1).
الصعود والامتلاء من الروح القدس:
يقول القديس بولس الرسول عن الربِّ يسوع في رسالته إلى أهل أفسس: «الذي نزل هو الذي صَعِدَ أيضاً فوق جميع السموات، لكي يملأ الكلَّ» (أف 4: 10).
ونزول الرب يعني به إخلاؤه لنفسه وأَخْذه صورة عبد صائراً في شِبْه الناس، «وإذ وُجِدَ في الهيئة كإنسانٍ، وَضَعَ نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب. لذلك رفَّعه الله أيضاً (”بصعوده فـوق جميع السموات لكي يمـلأ الكـل“ - أف 4: 10)، وأعطاه اسماً فوق كلِّ اسمٍ، لكي تجثو باسم يسوع كلُّ رُكبةٍ مِمَّن في السماء ومَـن على الأرض ومَـن تحـت الأرض، ويعترف كـلُّ لسـانٍ أنَّ يسوع المسيح هـو ربٌّ لمجد الله الآب» (في 2: 7-11).
وهكذا نرى أن نزول الرب من السماء، هو تنازُل عـن مجد ألوهيتـه وإخلاء لذاتـه وأَخْذه صورة عبد، وتجسُّده وتأنُّسه. وهكذا وَضَعَ نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب، الذي عبَّر الرب عنه قبل موته بقوله: «وأنا إن ارتفعتُ عن الأرض أجذبُ إليَّ الجميع. قال هـذا مُشيراً إلى أيَّـة مِيتـة كـان مُزمعـاً أن يمـوت» (يـو 12: 33،32). يقصد الارتفاع عن الارض على خشبة الصليب
فصَلْب الرب وصعوده فـوق الصليب، كان لاستعلان مجده، وإبادته الموت" أى انهزام قوة الموت أمام سلطان معطى الحياة "، وإظهار قيامته، وصعـوده إلى أعلى السموات لكي يمـلأ الكل بلاهوته (القدَّاس الغريغوري).
من أجل هذا قال الرب لتلاميذه قبل صَلْبه: «إنـه خيرٌ لكم أن أنطلق، لأنه إنْ لم أنطلق لا يأتيكم المُعزِّي، ولكـن إنْ ذهبتُ أُرسله إليكم» (يو 16: 7).
فـالربُّ بعد أن أكمل فـداءه للبشرية، بموته على الصليب وقيامتـه التي كَسَرَ بها شوكـة الموت، وفَتَحَ أبواب الجحيم لكي يُعيد آدم وبنيه إلى الفردوس؛ كان هذا هو بداية لإغداقه كل بركات القيامة على الإنسان، لكي يمنحه أعلى درجات النعمة والتقديس «لنكون قدِّيسين وبلا لوم قُدَّامه في المحبـة، إذ سبق فعيَّننا للتبنِّي بيسوع المسيح لنفسـه، حسـب مسـرَّة مشيئتـه...» (أف 1: 5،4).
فالربُّ بتجسُّده وموته وقيامته، كان ينوي، ليس فقط أن يُحرِّرنـا مـن الموت والخطية؛ بل أن يرفـع الطبيعة البشريـة إلى أعلى السموات، «بمعرفة الذي دعانا بالمجد والفضيلة، اللَّذَين بهما قـد وَهَبَ لنا المواعيد العُظمى والثمينـة، لكي تصيروا بها شُركاء الطبيعة الإلهية، هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة» (2بط 1: 4).
وكـانت أولى كـل عطايـا الرب بعـد صعوده، التي أوصى الرسل بها أن ينتظروها، ولا يبرحوا أورشليم حتى ينالوها، هي «موعد الآب... لكنكم ستنالون قوَّة متى حـلَّ الروح القدس عليكم» (أع 1: 8،4). وهو نفس ما قاله بولس الرسول لأهل أفسس: «الذي فيه أيضاً أنتم، إذ سمعتُم كلمة الحقِّ، إنجيل خلاصكم، الذي فيـه أيضاً إذ آمنتُم خُتِمْتُم بـروح الموعـد القدوس، الـذي هـو عُربـون ميراثنـا، لفداء المُقْتَنَى، لمدح مجده» (أف 1: 14،13).
(كما أنَّ الله الآب، بعد أن أقام الرب يسوع من بين الأموات، «أجلسه عن يمينه في السماويَّات، فوق كل رياسة وسُلطان وقوَّة وسيادة، وكل اسمٍ يُسَمَّى ليس في هذا الدَّهْر فقط بل في المستقبل أيضاً، وأَخضع كل شيء تحت قدميه، وإيَّاه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة، التي هي جسده، مِلءُ الذي يملأ الكلَّ في الكلِّ» (أف 1: 20-23).
ويعود بولس الرسول ليؤكِّد أيضاً عِظَم محبة الله التي لا يُنطَق بها للبشرية بقوله: «الله الذي هو غَنيٌّ في الرحمة، مـن أجل محبته الكثيرة التي أحبَّنا بها، ونحن أمواتٌ بالخطايا أحيانا مع المسيح - بالنعمة أنتم مُخَلَّصون - وأقـامنا معه، وأجلسنا معه في السماويَّات في المسيح يسوع، ليُظهِرَ في الدهور الآتية غِنَى نعمته الفائق، باللُّطف علينا في المسيح يسوع» (أف 2: 4-7).
وفي هذا يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:
[أرأيتَ غِنَى مجد ميراثه؟ فمِن حيث إنه أقامنا معه، فهذا معروفٌ، وأيضاً «أجلسنا معه في السماويَّات في المسيح يسوع»، لكن كيف يكون هذا أمراً مؤكَّداً؟ تماماً مثلما أنه «أقامنا معه». لأنه حتى قيامة المسيح، لم يكن أحد قـد قـام على الإطلاق، إلاَّ فقط حين قـام الرأس، فـأقامنا معه؛ كمـا حدث في العهد القديم، فعندمـا سَجَد يعقوب، فعندئـذ سجدتْ معه زوجتـه أيضاً ليوسـف. وهكذا «أجلسنا معه»، فحينما جلس الرأس (عن يمين الآب)، جلس الجسد (أي الكنيسة) معه.
ولذلك أضاف: «مع المسيح»، فإنْ لم يكن يقصد هـذا المعنى، فإنه يعني أنه أقامنا معه بالمعمودية.
إذن، كيف أجلسنا معـه (في السماويَّات)؟ يتضح ذلك من خلال قوله: «إنْ كُنَّا نصبر، فسنملك أيضاً معه»، «وإن كنَّا قد متنا معه، فسنحيا أيضاً معه» (2تي 2: 12،11). نحن في حاجـة ماسـة إلى الروح القدس، روح الإعلان، لكي نُدرك عُمق هذه الأسرار](2).
وفي هذا أيضاً يقول القديس كيرلس الكبير:
[... حينما حان الوقت وحتَّمت الضرورة أن يعـود (الرب) إلى الآب في السـماء، كـان أساسياً ولازمـاً أن يجعل عابديـه في شركة معه بواسطـة الروح، وأن يسكن في قلوبنـا بـالإيمان، لكي بحضوره في داخلنا، نصرخ بثقــة ودالـة ونقـول: «يـا أَبَـا الآب» (انظر غل 4: 6).
ولكي نتقدَّم في كـلِّ فضيلة، وأيضاً لكي نكـون أقويـاء وغير مغلوبين في مواجهة خداعـات إبليس، وهجمـات البشر، لأننـا حاصلون على الروح الكُلِّي القدرة...
وهكـذا نجد أنَّ التلاميذ الذيـن امتلأوا بالروح القدس، قد تحوَّلوا إلى حالةٍ من عدم الانزعاج من هجمات المضطهِدين، وأمسكوا بمحبة المسيح بكلِّ قوَّة. لذلك فإنَّ المُخلِّص صادقٌ حينما يقول: ”خيرٌ لكم أن أنطلق إلى السماء“، لأن هـذا كان هـو الوقت المناسب لنزول الروح](3).
وهكـذا بصعود الرب يسـوع إلى السماء وجلوسه عـن يمين العظمة في الأعالي، «سَبَى سبياً وأعطى الناس عطايا» (أف 4: 8).
وسوف يستمر الرب في إغداقه لعطاياه لكلِّ مَن يقبله ويؤمن به، «إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله. إلى إنسان كامل. إلى قياس قامة ملء المسيح» (أف 4: 3).
وهكذا فما زال فيض الملء منسكباً. وطوبى لمَن يفغر فاه ليملأه ابن الله!
(يتبع)
(1) القديس كيرلس الكبير: ”شرح وتفسير إنجيل يوحنا“ (المجلَّد الثاني)، ص 200، (مؤسَّسـة القديس أنطونيوس - المركـز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية).
(2) ”تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس“، (مؤسَّسـة القديس أنطونيوس - المركـز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية)، ص 79،78.
(3) ”شرح وتفسير إنجيـل يـوحنا“ (المجلَّد الثاني)، ص 324،323، (مؤسَّسـة القديس أنطونيوس - المركـز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية).
منقول
طعام الاقوياء
http://www.stmacariusmonastery.org/st_mark/sm061610.htm
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق